قصة المسن علي… رحلة ضياع امتدّت لعشرين عامًا وانتهت بلقاء قصير لم يكتمل
تُعدّ قصة المسنّ “علي” واحدة من أكثر القصص الإنسانية المؤثرة التي عاشها أهالي قابس وتطاوين خلال الأيام الأخيرة، وهي حكاية تختزل معاناة الوحدة، وتكشف في الوقت نفسه حجم التعاطف والتكاتف الذي يمكن أن يجمع المجتمع عند مواجهة مثل هذه الحالات.
البداية كانت عندما عُثر على علي في قسم الاستعجالي بالمستشفى الجهوي بقابس، بعدما وجده بعض المواطنين في حالة إنهاك شديد، غير قادر على تحديد مكانه أو تذكّر تفاصيل عن حياته. كان يعيش حالة ضياع كامل، لا يحمل بطاقة تعريف وطنية، ولا يعرف عنوان عائلته ولا سكنه، وكل ما كان يردده هو أنّ لديه ابنة اسمها “هادية”. هذا الاسم كان الخيط الوحيد الذي تعلق به الفريق الطبي والأعوان في محاولة للتعرّف على هويته.
تم نشر صور علي على مواقع التواصل الاجتماعي، في محاولة لاسترجاع معالم قصته، وما إن انتشرت حتى تواصلت عائلته مع السلط المعنية، بعد أن تعرفوا عليه. ورغم الصدمة التي عاشوها حين أدركوا أنه كان غائبًا عنهم منذ أكثر من عشرين عامًا، إلا أنّ شعور الارتياح كان حاضرًا لأنهم أخيرًا وجدوه، حيًا رغم كل الظروف القاسية التي مر بها.
باشرت السلطات الجهوية بقابس، بالتنسيق مع الجمعية الجهوية لرعاية المسنين، عملية إرجاعه إلى عائلته. وقد تم تخصيص سيارة وسائق لنقله في رحلة طويلة من قابس إلى تطاوين، حيث تقيم شقيقته التي انتظرته لسنوات طويلة. رافقه أيضًا أعوان مختصون في الإحاطة الاجتماعية لتأمين ظروف نقل محترمة وإنسانية، تعكس قيم الرعاية التي يفترض أن يحظى بها كبار السن في تونس.
وبعد شهر كامل قضاه علي في الاستعجالي، عاش خلاله بين أيدي الإطار الطبي الذي لم يقصّر في رعايته، وصل أخيرًا إلى مسقط رأسه. كانت لحظة اللقاء مؤثرة، امتلأت بدموع الفرح والدهشة وعبق الذكريات القديمة. فقد استعادت شقيقته روحًا ظنت أنها فقدتها إلى الأبد، واستعاد علي دفء العائلة بعد سنين من التيه والوحدة.
لكن فرحة اللقاء لم تدم طويلاً… فبعد ساعات قليلة من وصوله إلى منزل شقيقته، فارق علي الحياة بهدوء، وكأنه كان ينتظر فقط أن يعود إلى بيته ليرتاح. رحل بعد أن لمس الدفء الذي افتقده لأمد طويل، وبعد أن رأى وجوهًا كان يحمل صورها في ذاكرته رغم سنوات الغياب.
قصة علي ليست مجرد حادثة إنسانية عابرة، بل هي دعوة للتفكير في واقع كبار السن في تونس، في مسؤوليتنا تجاههم، وفي ضرورة تعزيز دور العائلة والمجتمع والمؤسسات لتأمين حياة كريمة لمن أفنوا أعمارهم في خدمة هذا الوطن.
رحم الله علي، وجعل مثواه الجنة، وجزى كل من ساهم في إعادة الدفء إلى قلبه، ولو لساعات قليلة.